عقب 14 عاماً من حكم حزب المحافظين في بريطانيا، تدهورت خلالها الخدمات العامة ومستويات المعيشة بمعدلات متسارعة، تبشر استطلاعات الرأي بخسارة ساحقة للحزب، وعلى الأغلب بخسائر غير مسبوقة. يرفع المحافظون في حملتهم الانتخابية شعارات تعد بالتغيير، وهو ما استدعى الكثير من السخرية.
وعلى الخلفية هذه، يطل رئيس الحكومة الحالي، ريشي سوناك، على الناخبين، ويخرج من وفاضه شبه الخالي من الأفكار، خطة لإعادة فرض الخدمة الوطنية الإلزامية، وضمنها الخدمة العسكرية، على الشباب. والجدير بالذكر أن الخدمة الإلزامية كانت قد ألغيت في بريطانيا في مطلع الستينيات، وعليه يبدو الوعد الوحيد الممكن بالتغيير هو القذف بالسياسات العامة إلى سبعة عقود مضت.
في المناظرة المتلفزة بين سوناك وزعيم حزب العمال كير ستارمر، مؤخراً، استقبل الجمهور اقتراح سوناك بعودة الخدمة الإلزامية بموجة من الضحك، وفي تقاليد السياسة البريطانية لا توحي القهقهة بالضرورة بحس بالدعابة بل بالأحرى تهدف إلى الاعتراض. في نهاية المناظرة، نال سوناك، رغم الضحكات، رضا 51% من الجمهور، فيما نال غريمه 49%. لا تؤثر شعبية زعيم الحزب عادة في نتائج الانتخابات العامة في بريطانيا، فحزب العمال مازال متقدماً بفارق كبير في استطلاعات الرأي. لكن الفارق الضئيل بين سوناك وستارمر، وتقدم الأول، يوحي باحتمالية ولو ضئيلة بأن تصبح الخدمة العسكرية الإلزامية واقعاً في بريطانيا بنهاية الصيف. اقتراح الخدمة الإلزامية نفسه نال رضا 39% من المصوتين.
في حزب العمال، قاد انتصار الجناح اليميني بقيادة ستارمر على يسار الحزب، إلى برنامج انتخابي بطموح متواضع، لا يمنح الجمهور وعوداً كبرى. الفارق الأيديولوجي الضئيل بين يسار الوسط الذي يمثله العمال، وبين اليمين ممثلاً في المحافظين، يترك الانتخابات العامة المقبلة بلا خيارات حقيقية، في تمديد لنظام الحزبين وديموقراطية اللاخيارات. على الأغلب، سيصوت الناخبون فقط لمعاقبة المحافظين، قبل أن يعودوا لاحقاً للتصويت لمعاقبة العمال، وهكذا في لعبة كراسٍ موسيقية موسمية.
ستارمر الواثق من فوز كاسح، بحسب قواعد التصويت العقابية ودوائرها المغلقة، لا يبذل مجهوداً يذكر لاستمالة الجمهور، بل يتفرغ على مشارف الانتخابات العامة لتصفية الحسابات الداخلية، بالتخلص من يسار الحزب. فبعد حرمان كوربين، زعيم الحزب السابق، من المنافسة على لوائح الحزب، يفعل العمال الأمر نفسه مع دايان أبوت، أول عضوة سوداء في مجلس العموم البريطاني، ولاحقاً يحظر الحزب المرشحة المسلمة فايزة شاهين من الترشح في الانتخابات العامة المقبلة. والحال أن الأعضاء الثلاثة البارزين عوقبوا على خلفية اتهامهم بمعاداة السامية. هكذا، لا يمانع ستارمر من خسارة أصوات قواعد الحزب المخلصة من الأقليات السوداء والمسلمة وكذلك تياره الراديكالي، طالما أن الفوز مضمون بأي حال.
مع انزياح حزب العمال أكثر نحو اليمين، يلجأ ستارمر إلى سياسات الخوف. ففي تصريحات له قبل يوم واحد من المناظرة المتلفزة، يعلن زعيم المعارضة عن "نهاية حقبة مع بعد الحرب" والتبشير بـ"فترة انعدام الأمن". وعليه فإن واحداً من تعهداته الانتخابية العشرة الرئيسية، يتعلق بالجهوزية العسكرية والردع النووي، وبناء المزيد من الغواصات النووية.
وليست روح العسكرة البريطانية حالة فريدة. فالأسبوع الماضي، وفي استجواب في البوندستاغ الألماني، صرح وزير الدفاع بوريس بيستوريوس، بأن على ألمانيا الاستعداد للحرب في العام 2029، مضيفاً: "في حالة الطوارئ، سنحتاج شباباً وشابات أقوياء للدفاع عن هذا البلد"، ومن ثم اقترح العودة إلى "نوع من الخدمة العسكرية". وعلى عكس بريطانيا التي كانت من أوائل الدول الأوروبية التي ألغت التجنيد الإجباري، فإن ألمانيا علّقت الخدمة العسكرية الإلزامية فقط في العام 2011. ولا يبدو اقتراح الوزير الألماني محروماً من الدعم الجماهيري، ففي استطلاع للرأي أجري في آذار/مارس الماضي، حظي التجنيد الإجباري بموافقة 50% من المصوتين.
تردد تلك الإشارات صدى تحذيرات الرئيس الفرنسي ماكرون، في كلمة له في جامعة السوربون في نيسان/أبريل الماضي، والتي كان عنوانها الأبرز "أوروبا مهددة بالموت"، مشيراً إلى تغير قواعد اللعبة، والحاجة إلى استراتيجية دفاعية جديدة في ظل التهديدات الروسية وفك الارتباط الأميركي، ملوحاً بالقدرات النووية الفرنسية بوصفها عنصراً أساسياً في الدفاع عن أوروبا.
ليست الحرب الأوكرانية وحدها ما يضع علامة النهاية لحقبة ما بعد الحرب، بل إن تقلب الموقف الأميركي بشأن ضمانة الأمان الأوروبي هو ما يضع القارة على المحك، ويترك نخبها وجماهيرها في مواجهة شعور عام بالهشاشة.
المصدر: المدن